Tuesday, July 21, 2009

صـفـحـــــات مـن الـــــتاريـخ ( 2- 18

عبدالحميد الشعبي - عضو المكتب العسكري للجبهة القومية يروي تفاصيل مثيرة عن الكفاح المسلح في الجنوب: (الحلقة الثانية) حاولت استقطاب الأمير علي بن إبراهيم بن يحيى حميد الدين إلى الحركة لكنه غادر فجأة إلى أميركا


* المرتبة القيادية في الشمال قررت الانفصال عن القيادة الموحدة لليمن
* المكتب العربي في تعز أو عز لمؤيديه دعم عبدالفتاح إسماعيل لاستلام مكتب الأمن في الجبهة القومية
* سلطان أمين القرشي وعبدالواحد السياغي وعبدالله الحمدي وأنا، بعثنا برقية إلى السلال عارضين التطوع للدفاع عن ثورة سبتمبر، فجاءنا الرد من وزير الداخلية المصري

حوار: سامي غالب - باسم الشعبي

في الحلقة الأولى تحدث عبدالحميد عبدالعزيز الشعبي عن نشأته الأولى، ودراسته في المدرسة المحسنية في لحج، ومدرسة النهضة في الشيخ عثمان، ثم التحاقه بمدرسة حلوان في مصر لإكمال تعليمه الثانوي. وفي هذه الحلقة يتطرق إلى علاقته بزملائه اليمنيين في حلوان وكلية الشرطة في القاهرة، مبرزاً جوانب شخصية لافتة لدى بعض زملائه، وكذا في شخصية قحطان الشعبي أول رئيس يمني جنوبي بعد الاستقلال.

> مطهر الإرياني وعبدالله محمد نعمان، عبدالحافظ قائد، وكان هناك فلسطينيون وأردنيون، وآخرون، هؤلاء كانوا معاً في أول حلقة، أين كنتم تجتمعون؟
- في شقق محددة.
> في حلوان أم في القاهرة؟
- في القاهرة. كنت الوحيد من حلوان أما البقية فكانوا في القاهرة.
> كنتم تجتمعون أسبوعياً، وبالطبع إما الخميس أو الجمعة؟
- نعم.
> من كان المسؤول عن الحلقة؟
- فيصل عبداللطيف. ثم لاحقاً كان ينوبه يحيى الإرياني.
> وسلطان أحمد عمر؟
- كان يتولى المسؤولية في فترة محددة: اجتماعين أو ثلاثة.
> كان يكبرك سناً؟
- نعم.
> كان قارئاً نهماً؟
- جميعهم كان يقرأ. وفي تلك الفترة المبكرة لم تكن قدراته في الكتابة ظاهرة.
> مالذي كان يميزه قياساً بغيره؟
- كان الجميع متقاربين ولم تكن المراتب القيادية تضفي ميزة لشخص على آخر.
> هل زملاؤك الذين قدموا معك من لحج أستقطبوا أيضاً للحركة؟
- استقطبنا بعضهم في حلوان، وكوَّنا لاحقاً خلايا في حلوان، ومن هؤلاء الدكتور حسين الكاف (الآن في المؤتمر الشعبي).
> في فبراير 1958 قامت الوحدة بين مصر وسوريا، وبالنسبة لك كيمني وعضو في حركة القوميين العرب، لا ر يب في أنك شعرت باقتراب تحقق حلم الوحدة العربية؟
- نعم، ما دامت سوريا انضمت إلى مصر، فقد شعرنا بأن الوحدة العربية قريبة بزعامة عبدالناصر.
> كان معكم في حلوان طلبة آخرون، بينهم أقارب للإمام أحمد؟
- أبناء أخيه ابراهيم كانوا يدرسون معنا في حلوان. أحدهما علي والآخر لا أتذكر اسمه. كانا يسكنان في شقة وكانت السفارة الامريكية منحت كلاً منهما سيارة خاصة. صباح أحد الأيام مرَّ علي بن ابراهيم عليَّ بسيارته، ليأخذني معه إلى القاهرة لحضور مهرجان شعبي دعا إليه جمال عبدالناصر. كانت علاقتي الشخصية بعلي قوية. كان يحرص على التواصل معي، وكان قريباً من توجهنا القومي، حتى في آرائه السياسية. كان مستاء من وضع شقيقته في صنعاء. أذكر أنه شكا من أن الإمام أحمد رفض تزويجها. فجأة غادر وشقيقه، وكذا عبدالكريم الإرياني إلى الولايات المتحدة الاميريكية. غادر الارياني فجأة رغم عضويته في حركة القوميين العرب.
> هل سافروا معاً، أم أن الارياني غادر لوحده!
- لا أدري. في تلك الفترة حصلت أزمة بين الامام احمد وعبدالناصر، وعلى ما يبدو فإن توجيهات من الإمام صدرت بمغادرتهم مصر. لم يكونوا قد أكملوا الثانوية، وقد غادروا فجأة. حتى أن علي بن ابراهيم لم يزرني ليودعني رغم علاقتي القوية به. كان الأمير علي قومياً. لم نكن نحس بالفوارق معه، كنت استلم نهاية كل شهر 2 جنية وهو أمير، لكني لم أحس بأي فرق معه.
> ألم يكن هذا يشوِّش عليكم؟
- لا. تعرف أن والده كان من الأحرار، وعلي كان يحمل توجهات قومية، وكنت أحاول استقطابه لكنه سافر فجأة.
> شعرت بالحزن لذلك؟
- عشت أحزاناً كثيرة، لكن الحزن الكبير حصل عندما قدم عبدالناصر، استقالته في 1967. ولأول مرة أبكي. كنت في الصبيحة.
> في 59-60 أنهيت الثانوية، وبعدها التحقت بكلية الشرطة، لماذا؟
- كنت أتطلع لدخول كلية الطب. وكان معدلي يسمح لي بدراسة الطب، لكن قيادة الحركة أوعزت لي بدخول كلية الشرطة.
> كانوا يرتبون لمرحلة قادمة، وبخاصة للكفاح المسلح؟
- كان التفكير حينها بضرورة البدء بكفاح مسلح في الجنوب.
> بالتأكيد التحق بالكلية يمنيون آخرون؟
- دخلنا في يوم واحدأربعة: عبدالواحد السياغي وسلطان أمين القرشي وعبدالله الحمدي وأنا.
> كانوا معك في حلوان؟
- لا. كنت أعرف سلطان من الشيخ عثمان، كان يدرس في المدرسة الحكومية رغم أنه لم يكن من مواليد عدن، ولكن على ما يبدو فإن أسرته تمكنت من استصدار «مخلقة» (شهادة ميلاد) عدنية.وكذلك فعل عبدالفتاح اسماعيل، الذي ولد في حيفان لكنه استصدر مخلقة باعتباره من مواليد التواهي، وحسب رواية سعيد الجناحي فإن عبدالفتاح أبلغه بأن الرفاق (في الحركة) طلبوا منه ذلك.
> وعموماً فإنك عرفت عبدالله الحمدي وعبدالواحد السياغي لأول مرة يوم دخولك كلية الشرطة؟
- نعم. وكنا في عنبر واحد، وفي أسرة متجاورة. سلطان أولاً، ثم أنا، ثم السياغي، واخيراً الحمدي. في اليوم الأول كان الاستقبال قاسياً، كان الغرض هو نقلك، بالشعور والجهد العضلي، من الحالة المدنية إلى الحالة العسكرية، كانت التدريبات قاسية. كان السياغي مجهداً، وكان يردد كلمة «هيا ما قالوا». كان ينطقها على طريقة الإخوان في الشمال، مضيفاً عبارات متذمرة، وكنت غالباً ما أداعبه قائلاً: هيا ما قالوا؟
> أكنتم تشعرون بتمايزات فيما بينكم، هل كان لديك إحساس بأن زملاءك القادمين من صنعاء وذمار وغيرها من مناطق الشمال فيهم جلافة أو غطرسة؟
- أبداً. لا يوجد تغطرس ولا جلافة ولا تمايز.
> ربما لأنهما من أبناء القضاة.
- ربما. لكنهما لم يخلقا أي انطباع بأنهما متميزان.
> هل كان عبدالله الحمدي منتمياً إلى حركة القوميين العرب؟
- لا. حسب علمي لم يكن عضواً في الحركة. وكنت أعرف أغلب أعضائها في مصر.
> وماذا عن عبدالواحد السياغي؟
- لم يكن عضواً في الحركة.
> في 26 سبتمبر قامت ثورة 26 سبتمبر، وكنتم حينها في كلية الشرطة، كيف تلقيتم الخبر؟
- اجتمعنا ووجهنا برقية إلى عبدالله السلال، نعرض تطوعنا للدفاع عن الثورة. لم يرد السلال علينا. وقد فوجئنا بالرد يأتي من وزير الداخلية المصرية، وفيه تطمين لنا بأن القوات المصرية الآن في اليمن لحماية الثورة، وما عليكم انتم إلا أن تواصلوا دراستكم. لم يضايقنا الرد، واعتبرناه الموقف الصحيح. لكننا استغربنا أن يأتي الرد من وزير الداخلية المصري.
> هل كان الحمدي أو السياغي يتحدثان إليك عن الأوضاع في الشمال قبل الثورة، ثم بعدها؟
- أبداً، لم نكن نجد فرصة للحديث أو الراحة إلا وقت الغدا أو قبل النوم.
> ولكن توجد إجازات دورية؟
- في الإجازات القصيرة لم يكن الوقت يسمح لنا بالتواصل، وبالكاد يكفي للعمل التنظيمي وحضور اجتماعات الحركة.
> بالنسبة لطالب كلية الشرطة، تعرف أن ضباط الشرطة والجيش حينها كانوا يستلهمون شخصية عبدالناصر، أو عبدالكريم قاسم، وآخرين، وبالضرورة فإن هذه النماذج كانت الدافع لاهتمام طلاب الكلية بالسياسة، وانخراطهم في أنشطة سياسية؟
- صحيح. لكننا لم نكن نجد الوقت الكافي.
> ماذا عن الميول السياسية لسلطان أمين القرشي؟
- لم أكن أعرف أنه منتم إلى حركة سياسية، في الواقع لم يمكن أحدنا يسأل الآخر عن انتمائه السياسي. كنت أعرفه من الشيخ عثمان، وحتى عندما كنت في حلوان وأزور القاهرة كنت أنزل في شقته.
> أكانت تظهر عليه ميول سياسية، تعرف أنه لاحقاً انتمى إلى البعث، ثم الطليعة الشعبية!
- لم يكن يظهر عليه ذلك.
> لنعد إلى حدث ثورة 26 سبتمبر؟
- كنا نعتبر أي تغيير في الشمال يخدم الجنوب. وبعد أن أتى الرد من وزير الداخلية أعدنا التفكير وتساءلنا ماذا بوسعنا أن نفعل هناك ونحن مجرد أربعة أشخاص.
> ومع ذلك كنتم تتشوقون لإنهاء الدراسة والعودة إلى اليمن؟
طبعاً، لأن الواحد منا يكرس جهده ووقته من أجل التخلص من الظلم والقهر في الشمال والجنوب.
> أين كان قحطان الشعبي لحظتها؟
- في القاهرة. وقد غادر لاحقاً إلى صنعاء.
> وفيصل عبداللطيف الشعبي؟
- كان يعمل في سلطنة لحج.
> هل كنت تعرف أن ضباطاً قوميين عرباً شاركوا في ثورة سبتمبر؟
- لا. ولم أسمع لاحقاً بذلك.
> كنت تعرف أن حركة القوميين العرب مؤيدة للثورة، والكثير من أعضائها انخرطوا في المقاومة الشعبية، والحرس الوطني؟
- هذا صحيح. أغلب الشباب كانوا مع الثورة، سواء من القوميين العرب أو من الأحزاب الأخرى.
> أنت كنت وقتها عضوا في حركة القوميين العرب التي كانت حركة قومية عربية علمانية...
- لم يكن هذا الوصف (علمانية) موجوداً.
> صحيح ولكن الحركة بطبيعتها علمانية، وتضم أعضاء مسلمين ومسيحيين، ومن مذاهب مختلفة. في القاهرة هل تعرفت على مسيحيين في الحركة؟
- لم نكن نسأل حينها عن ديانة هذا أو ذاك. حتى في مدرسة حلوان كان يوجد طلاب مصريون مسيحيون ولم يكن ذلك مثار تساؤل.
> من تتذكر من العرب الذين كانوا معكم؟
- ياسر عبدربه مثلاً. وكان شخصاً عادياً، ولم يكن يميز نفسه كما تراه الآن. كان المزاج العام مختلفاً حينها، ولم تكن المواقع القيادية ذات معنى شخصي. أذكر أننا، السلامي وأنا، قابلنا محسن إبراهيم في القاهرة عام 1963. لم يشعرنا الرجل بأنه يتميز عن الآخرين بشيء. كذلك قابلنا في نفس الفترة عبدالحميد السراج في منزله في مصر الجديدة، ولم نحس مطلقاً بأن الرجل الذي يجلس معنا هو ذاك الشخص القوي الذي كان يمسك بخيوط عديدة في سوريا.
> لماذا ذهبتم إلى السرَّاج؟
- كنت قد تخرجت من كلية الشرطة، وزرناه لغرض توفير دورات تدريبية ليمنيين لغرض الإعداد للكفاح المسلح. كنا نستعجل قيام ثورة مسلحة، حتى بعد عودتي إلى عدن اجتمع أعضاء الحركة في المنصورة وطرحت بإلحاح هذا المطلب قبل قيام ثورة 14 أكتوبر.
> حدثنا عن التراتبية التنظيمية في الحركة حينها وانتم في القاهرة؟
- حلقة في أسفل الهرم التنظيمي، ثم خلية، فخلية قيادية، فمرتبة، وهي عبارة عن شعبة وهي تعادل الفرع.
> هل استقطبت الحركة سواء في حلوان أو في القاهرة طلبة مصريين؟
- لا.
> لماذا؟
- لأننا نعتبر نشاطنا في مصر ينبغي ألاَّ ينصرف إلى المصريين لأن مصر تقود النضال العربي حينها.
> ربما أيضاً بسبب الوطنية المصرية القوية، ليس فقط القوميون العرب، بل البعث ايضاً، لم يستطع استقطاب أعضاء في مصر. كل الحركات القومية العربية التي نشأت في المشرق لم يكن لها امتداد في مصر.
- حسبما أعلم فإننا في الحركة كنا نستثني المصريين من نشاطنا الاستقطابي. وأكثر من ذلك فإن الحركة فكرت بعد قيام الوحدة المصرية السورية بحل نفسها.
> تقصد في سوريا؟
- بشكل عام، باعتبار أن المد الوحدوي بلغ ذروته.
> ماذا عن الطالبات، هناك طالبات عرب اُستقطبن إلى الحركة، لم يكن بينهن يمنيات وقتها؟
- تم استقطاب طالبات، ليس بينهن يمنيات. طالبات سوريات، وأردنيات وفلسطينيات، وكويتيات.
> هل تتذكر أسماء محددة؟
- كان معنا طالبة فلسطينية، ولكنني لا أتذكر اسمها.
> كيف كانت العلاقة بين الطلاب والطالبات داخل الحركة؟ وهل وجدت انشطة اجتماعية خارج العمل الحركي؟
- كنا نقوم برحلات إلى خارج القاهرة، وأحياناً إلى الأقصر. وأذكر أن حيدر أبو بكر العطاس فاز بيانصيب في أحد الأنشطة.
> ألم يكن البيض معه في نفس الفترة؟
- لا. البيض جاء فيما بعد في دورة عسكرية مع علي ناصر محمد.
> بعد مغادرة فيصل من كان يدير الخلية؟
- ياسر عبدربه، وكان المسؤول الأول للمجموعة التي تضمني.
> ومن كان المسؤول الأول في مصر؟
- لا أدري.
> أفهم من كلامك أن التسكين التنظيمي كان مشتركاً. يعني الخلية أو الحلقة تضم أعضاء من أقطار عربية مختلفة.
- نعم.
> ألم تكن هناك حساسيات قطرية، أنتم مثلاً من اليمن حيث التخلف أفدح؟
- لم نكن نشعر أبداً بأية فوارق. كان زملاؤنا الكويتيون ميسورين جداً، حتى أن أول كتاب طبع في القاهرة كان على نفقتهم.
> من تذكر منهم؟
- لا أذكر أحداً. لم تجمعني بهم خلية واحدة.
> كطلاب في خلية الشرطة، هل كنتم تحتكون بالطلاب المدنيين اليمنيين؟
- كنا نلتقي بهم وكانت لقاءاتنا في مقاهي، وبخاصة في ميدان التحرير.
> هل تبادلت رسائل مع فيصل الذي كان وقتها في عدن ولحج؟
- لا.
> في 28 سبتمبر وقع الانفصال بين مصروسوريا؟
- كان الانفصال صدمة كبيرة. كنا في شقة في العجوزة، وهي الشقة التي استأجرها قبلنا فيصل الشعبي بعد انتقاله من شقة جاردن سيتي. في ذلك المساء كنت مصدوماً، وكنت قد بدأت بعادة التدخين، نزلنا من الشقة، عبدالله محمد نعمان وأنا. فور مغادرتنا مدخل البناية بوغتنا بقحطان أمامنا، رمق قحطان السيجارة بين اصابعي، ثم قال بلغة أوامرية صارمة: إرم بالسجاير. قلت له: لا. كانت تلك المرة الأولى التي أقول له لا. كنت حزيناً بسبب الانفصال، كما اعتبرت أسلوبه إهانة لي أمام زميلي. غضب قحطان، وغادرنا.
> كان يعاملكم بروحية أب، وكان سلوكه معكم مطبوعاً بالأبوية.
- بالضبط. وقد شعر أن عبدالحميد خرج عن الطاعة.
> كم استمر غضبه؟
- لم يستمر، ففي اللقاء التالي لم يتطرق إلى الأمر، كما أنني دخنت أمامه لاحقاً بعد تخرجي من كلية الشرطة.
> ماذا عن العادات الأخرى؟
- لم أكن أتعاطى مشروبات روحية. في كازينو قصر النيل، كنا مجموعة من الاصدقاء، وكان قحطان يتردد على الكازينو في أوقات محددة، وأحياناً كنت أرافقه. إحدى الأمسيات طلب الآخرون بيرة وطلبت أنا شاي. وجلست متوتراً جداً. أشرب الشاي وألح على اصدقائي بضرورة الاسراع في الانتهاء من مشروباتهم. كنت متوتراً وأتوقع وصول قحطان في أي لحظة: إذا كان «قَلَبَ الدنيا» من أجل حبة سيجارة، فماذا يمكن أن يفعل إزاء البيرة أو الويسكي.
أذكر واقعة أخرى ليس لها صلة بقحطان. قمنا في كلية الشرطة برحلة إلى الأقصر. نزلنا في فندق، في الكافتيريا طلبت شاي والآخرون طلبوا بيرة. قُدِّم الشاي بإبريق، وقدِّمت البيرة للآخرين. لمحنا أحد مدرسينا في كلية الشرطة، وكان يدرسنا البحث الجنائي وفيه فصل عن سلوك ضابط البحث وأهمية أن يكون قدوة. تعمد المدرس أن يجلس قبالنا ويكتفي بمراقبتنا. كنت أشرب الشاي بانتشاء فيما لم يجرؤ أحد من شركائي في الطاولة أن يمد يده لشرب البيرة. بعد دقائق توسل لي أحدهم بأن أصب له كأس شاي. استمر الموقف ساعة ونص، وظلت قوارير البيرة سليمة. لم يشر المدرس لهذا الموقف لاحقاً، وهو قال إننا احترمناه ولم نشرب، وأخذ ذلك في الاعتبار.
> أبوية قحطان الصارمة كانت تدفعكم أحياناً إلى التمرد.
-نعم. ولكنه كان يضيق من الأخطاء والإهمال والتسيب. لاحقاً في تعز اتخذ قراراً بأن يعامل قادة المكتب التنفيذي للجبهة القومية كما الموظفين، لأنه استاء من الإهمال كان البعض ينام حتى الظهر رغم أنه مسؤول عن مكاتب ولجان. عندما لاحظ وضع المقر، قال لهم: «من بكرة احضروا في الـ8 صباحاً، سأتعامل معكم كموظفين». وفي فترة لاحقة استغلت المخابرات المصرية ذلك وبدأت بالتحريض ضد قحطان باعتباره متعجرفاً ومستبداً.
> ماذا عن علي محمد سالم الشعبي، إذْ يظهر اسمه باعتباره من مؤسسي رابطة أبناء الجنوب قبل أن يلتحق بحركة القوميين العرب ثم الجبهة القومية؟
- نعم، هو تسلم مسؤولية مكتب الأمن في الجبهة القومية في تعز. قبل ذلك عمل مدرساً في مدرسة جبل حديد، وهو تخرج من السودان مثل قحطان الشعبي. درس بعد ذلك في أبين ولحج.
> مالذي كان يميِّز شخصيته؟
- كان هادئاً وودوداً على العكس من قحطان ذي الشخصية الصارمة في جديتها. في عام 1965 بعد المؤتمر الأول للجبهة القومية علم بوجود مؤامرة تُحاك ضد الجبهة. المكتب العربي (المصري) في تعز شعر بأن علي الشعبي يعمل على متابعة خيوط المؤامرة. أوعز المكتب لمؤيدية داخل فرع الحركة في الشمال بالعمل على التخلص منه وبصراحة طُرح على سيف الضالعي أن يتبنى مقترح إحلاح عبدالفتاح اسماعيل محل علي محمد سالم في المكتب التنفيذي ثم مكتب الأمن. كان ضباط المكتب العربي يثقون بأن سيف الضالعي معهم. سيف الضالعي طرح للقيادة بأن الشباب يطالبون بتسليم مفتاح مكتب الأمن لعبدالفتاح، ورُفِض الطلب. وقد ضغط المكتب العربي لكي تعلن المرتبة القيادية لحركة القوميين العرب في الشمال انفصالها من القيادة الموحدة لفرع الحركة في اليمن.
> تقصد أن انفصال فرع الحركة في اليمن كان بمبادرة من المرتبة القيادية في الشمال وليس من الجنوب؟
- نعم. لكن الجهاز الدعائي بث شائعة بين شباب الحركة تفيد بأن فيصل عبداللطيف هو الذي دبَّر الانفصال. فيصل للأسف لم يبادر لتوضيح موقفه. وبصراحة لم يكن هناك شعور بالخطر جراء الشائعة، فقد تم التعاطي مع الموضوع بتراخٍ على اعتبار أن المجموعة المتورطة فيه محدودة: سلطان احمد عمر، عبدالحافظ قائد، عبدالرحمن محمد سعيد، عبدالقادر سعيد. لم يكن الأمر مدعاة للقلق قبل ذلك. بل إن عبدالحافظ قائد وعبدالقادر سعيد كانا يحضران كافة الاجتماعات الموسعة للجبهة القومية. وكان يخصص لعبدالقادر سعيد راتب شهري مثله مثل قحطان وعلي السلامي، والأخير كان مسؤولاً مالياً. وأريد أن أوضح هنا بأني لم أكن يوماً مسؤولاً مالياً كما جاء في كتاب راشد محمد ثابت عندما أورد صورة تجمعني بعلي عنتر وعلق تحتها بأن عبدالحميد الشعبي هو المسؤول المالي.
الحاصل أن فيصل لم يبادر للمعالجة، وكان تراخيه أول غلطة يرتكبها، لاحقاً طُرح الموضوع في اجتماع موسع لشباب الحركة (والجبهة) في تعز، على هيئة السؤال: لماذا انفصلت القيادة الموحدة؟ لم يتجرأ أحد على القول بأن فيصل هو السبب. في تلك الأيام اعتقلت القوات البريطانية في عدن أكثر من 40 فدائياً، وكشفت الكثير من المواقع، فأصيب العمل الفدائي في عدن بالشلل. في يوم انعقاد الاجتماع الموسع للشباب في 9/10/1965، تحرك فيصل إلى عدن رفقة عبدالرب علي محمد (مصطفى). وهو أصلاً لم يكن راضياً عن عقد الاجتماع. وفي عدن اعاد ترتيب جبهة عدن. واستغل البعض الاجتماع للتحريض ضد فيصل وقحطا

No comments:

Post a Comment